الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
هذا كله إذا وجد العمل منفذا من القلب إلى الرب سبحانه وتعالى وإن دار فيه ولم يجد منفذا وثبت عليه النفس فأخذته وصيرته جندا لها فصالت به وعلت وطغت فتراه أزهد ما يكون وأعبد ما يكون وأشده اجتهادا وهو أبعد ما يكون عن الله وأصحاب الكبائر أقرب قلوبا إلى الله منه وأدنى منه إلى الإخلاص والخلاص فانظر إلى السجاد العباد الزاهد الذي بين عينيه أثر السجود كيف أورثه طغيان عمله أن أنكر على النبي صلى اله عليه وسلم وأورث أصحابه احتقار المسلمين حتى سلوا عليهم سيوفهم واستباحوا دماءهم وانظر إلى الشريب السكير الذي كان كثيرا ما يؤتى به إلى النبي صلى اله عليه وسلم فيحده على الشراب كيف قامت به قوة إيمانه ويقينه ومحبته لله ورسوله وتواضعه وانكساره لله حتى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لعنته فظهر بهذا أن طغيان المعاصي أسلم عاقبة من طغيان الطاعات وقد روى الإمام أحمد في كتاب الزهد: «أن الله سبحانه أوحى إلى موسى يا موسى أنذر الصديقين فإني لا أضع عدلي على أحد إلا عذبته من غير أن أظلمه وبشر الخطائين فإنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفره» فلنرجع إلى شرح كلامه قوله مكاشفة تدل على التحقيق الصحيح كل يدعي أن التحقيق الصحيح معه.
فليس التحقيق الصحيح إلا المطابق لما عليه الأمر في نفسه وهو في العلم الكشف المطابق لما أخبر به الرسل وفي الإرادة الكشف المطابق لمراد الرب الديني من عبده وقولنا الديني احتراز من مراده الكوني فإن كل ما في الكون موجب هذه الإرادة فالكشف الصحيح أن يعرف الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه معاينة لقلبه ويجرد إرادة القلب له فيدور معه وجودا وعدما هذا هو التحقيق الصحيح وما خالفه فغرور قبيح قوله وهي لا تكون مستدامة هكذا رأيته في نسخ وفي أخرى وهي أن تكون مستديمة وكأن هذا الثاني أصح لأن سياق الكلام يدل على ذلك وأنها غير مستدامة في الدرجة الأولى فإذا استدامت صارت في الدرجة الثانية وبذلك يحصل الإختلاف بين الدرجتين وإلا فلو كانت مستدامة فيهما لكانت الدرجتان واحدة قوله فإذا كانت حينا دون حين ولم يعارضها تفرق يعني فهي الدرجة الأولى بشرط أن لا يقطع حكمها تفرق ولهذا قال لم يعارضها ولم يقل لم يعرض لها فإن التفرق لابد أن يعرض لكن لا يعارضها ويقاومها بحيث يزيلها فإن العارض إذا عرض للقلب كرهه ومحاه وأزاله بسرعة وأما المعارض فإنه يزيل الحاصل ويخلفه فيصير الحكم له فلذلك قال غير أن الغين ربما شاب مقامه على أنه قد بلغ مبلغا إلى آخره يعني أن لوازم البشرية لابد له منها ولو لم يكن إلا أخفها وهو الحجاب الرقيق الذي يعرض لقلبه وهو الغين لكنه لا يضره لأنه قد بلغ مبلغا لا يلفته قاطع أي لا توجب له القواطع التفات قلبه عن مقامه إليها بل إذا.لحظها بقلبه فر منها كما يفر الظبي من الكلب الصائد إذا أحس به ولا يلويه سبب أي لا يعوج قصده للحق سبب من الأسباب ولا يرده عنه قوله ولا يقطعه حظ أي لا يقطعه عن بلوغ مقصوده حظ من الحظوظ النفسية والقاصد في هذه الدرجة هو الذي قد ظفر بالقصد الذي لا يلقى سببا إلا قطعه ولا حائلا إلا منعه ولا تحاملا إلا سهله فهذه درجة القاصد فإذا استدامت وتمكن فيها السالك فهي الدرجة الثانية قال الشيخ وأما الدرجة الثالثة فمكاشفة عين لا مكاشفة علم وهي مكاشفة لا تذر سمة تشير إلى التذاذ أو تلجىء إلى توقف أو تنزل إلى رسم وغاية هذه المكاشفة المشاهدة إنما كانت هذه الدرجة مكاشفة عين لغلبة نور الكشف على القلب فتنزلت هذه المكاشفة من القلب وحلت منه محل العلم الضروري الذي لا يمكن جحده ولا تكذيبه بل صارت للقلب بمنزلة المرئي للبصر والمسموع للأذن والوجدانيات للنفس وكما أن المشاهدة بالبصر لا تصح إلا مع صحة القوة المدركة وعدم الحائل من جسم أو ظلمة وانتفاء البعد المفرط فكذلك المكاشفة بالبصيرة تستلزم صحة القلب وعدم الحائل والشاغل وقرب القلب ممن يكاشفه بأسراره وليس مراد الشيخ في هذا الباب الكشف الجزئي المشترك بين المؤمنين والكفار والأبرار والفجار كالكشف عما في دار إنسان أو عما في يده أو تحت ثيابه أو ما حملت به امرأته بعد انعقاده ذكرا أو أنثى وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك فإن ذلك يكون من الشيطان تارة ومن النفس تارة ولذلك يقع من الكفار كالنصارى وعابدي النيران والصلبان فقد كاشف ابن صياد النبي صلى اله عليه وسلم بما أضمره له وخبأه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت من إخوان الكهان فأخبر أن ذلك.الكشف من جنس كشف الكهان وأن ذلك قدره وكذلك مسيلمة الكذاب مع فرط كفره كان يكاشف أصحابه بما فعله أحدهم في بيته وما قاله لأهله يخبره به شيطانه ليغوي الناس وكذلك الأسود العنسي والحارث المتنبي الدمشقي الذي خرج في دولة عبدالملك بن مروان وأمثال هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله وقد رأينا نحن وغيرنا منهم جماعة وشاهد الناس من كشف الرهبان عباد الصليب ما هو معروف والكشف الرحماني من هذا النوع هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة رضي الله عنهماإن امرأته حامل بأنثى وكشف عمر رضي الله عنه لما قال يا سارية الجبل وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن والمقصود أن مراد القوم بالكشف في هذا الباب أمر وراء ذلك وأفضله وأجله أن يكشف للسالك عن طريق سلوكه ليستقيم عليها وعن عيوب نفسه ليصلحها وعن ذنوبه ليتوب منها فما أكرم الله الصادقين بكرامة أعظم من هذا الكشف وجعلهم منقادين له عاملين بمقتضاه فإذا انضم هذا الكشف إلى كشف تلك الحجب المتقدمة عن قلوبهم سارت القلوب إلى ربها سير الغيث إذا استدبرته الريح فلنرجع إلى شرح كلامه فقوله الدرجة الثالثة مكاشفة عين لا مكاشفة علم أي متعلق هذه المكاشفة عين الحقيقة بخلاف مكاشفة العلم فإن متعلقها الصورة الذهنية المطابقة للحقيقة الخارجية فكشف العلم أن يكون مطابقا لعلومه وكشف العيان أن يصيرالمعلوم مشاهدا للقلب كما تشاهد العين المرئي.ومن ظن من القوم أن كشف العين ظهور الذات المقدسة لعيانه حقيقة فقد غلط أقبح الغلط وأحسن أحواله أن يكون صادقا ملبوسا عليه فإن هذا لم يقع في الدنيا لبشر قط وقد منع منه كليم الرحمن وقد اختلف السلف والخلف هل حصل هذا لسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه فالأكثرون على أنه لم ير الله سبحانه وحكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعا من الصحابة فمن ادعى كشف العيان البصري عن الحقيقة الإلهية فقد وهم وأخطأ وإن قال إنما هو كشف العيان القلبي بحيث يصير الرب سبحانه كأنه مرئي للعبد كما قال النبي صلى اله عليه وسلم«اعبد الله كأنك تراه» فهذا حق وهو قوة يقين ومزيد علم فقط نعم قد يظهر له نور عظيم فيتوهم أن ذلك نور الحقيقة الإلهية وأنها قد تجلت له وذلك غلط أيضا فإن نور الرب تعالى لا يقوم له شيء ولما ظهر للجبل منه أدنى شيء ساخ الجبل وتدكدك وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى لا تدركه الأبصار قال ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى به لم يقم له شيء وهذا النور الذي يظهر للصادق هو نور الإيمان الذي أخبر الله عنه في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاح} قال أبي بن كعب مثل نوره في قلب المؤمن فهذا نور يضاف إلى الرب ويقال هو نور الله كما أضافه الله سبحانه إلى نفسه والمراد نور الإيمان الذي جعله الله له خلقا وتكوينا كما قال تعالى: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} فهذا النور إذا تمكن من القلب وأشرق فيه فاض على الجوارح فيرى أثره في الوجه والعين ويظهر في القول والعمل وقد يقوى حتى يشاهده صاحبه عيانا وذلك لاستيلاء أحكام القلب عليه وغيبة أحكام النفس والعين شديدة الارتباط بالقلب تظهر ما فيه فتقوى مادة النور في القلب.ويغيب صاحبه بما في قلبه عن أحكام حسه بل وعن أحكام العلم فينتقل من أحكام العلم إلى أحكام العيان وسر المسألة أن أحكام الطبيعة والنفس شيء وأحكام القلب شيء وأحكام الروح شيء وأنوار العبادات شيء وأنوار استيلاء معاني الصفات والأسماء على القلب شيء وأنوار الذات المقدسة شيء وراء ذلك كله فهذا الباب يغلط فيه رجلان أحدهما غليظ الحجاب كثيف الطبع والآخر قليل العلم يلتبس عليه ما في الذهن بما في الخارج ونور المعاملات بنور رب الأرض والسموات ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور قوله ولا مكاشفة الحال مكاشفة الحال هي المواجيد التي يجدها السالك بوارداته حتى يبقى الحكم لقلبه وحاله قوله وهي مكاشفة لا تذر سمة تشير إلى الالتذاذ يريد أن هذه المكاشفة تمحو رسوم المكاشف فلا يبقى منه ما يحس بلذة فإن الأحوال والمواجيد لها لذه عظيمة أضعاف اللذة الحسية فإن لذتها روحانية قلبية والمكاشفة العينية تغيب المكاشف عن إدراك تلك اللذة والسمة هي العلامة فالمعنى أن هذه المكاشفة لا تذر له علامة تدل على لذة قوله أو تلجىء إلى توقف يعني لا تذر له بقية تلجئه إلى وقفة فإن البقية التي تبقى على السالك من نفسه هي التي تلجئه إلى التوقف في سيره قوله ولا تنزل على رسم أي لا تنزل هذه المكاشفة على من بقي فيه رسم حجاب بينه وبين هذه المكاشفة فإنها بمنزلة نور الشمس فلا تنزل في بيت عليه سقف حائل فإن الرسم عند القوم هو الحجاب بينهم وبين مطلوبهم والرسم هو النفس وأحكامها وصفاتها وهذه المكاشفة إذا قويت واستحكمت صارت مشاهدة ولذلك قال وغاية هذه المكاشفة هو مقام المشاهدة. اهـ.
|